فصل: (مسألة: جواز السلم مؤجّلاً وحالاًّ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: التلف بغير آفة سماوية]

وإن تلفت الثمرة قبل القبض بفعل آدمي من نهب أو سرقة.. ففيه طريقان:
أحدهما قال ابن الصبّاغ: هي كما لو تلفت بآفة سماويّة، وهل تتلف من ضمان البائع بعد التخلية؟ على قولين.
وثانيهما قال الشيخ أبو حامد: تتلف من ضمان المشتري بعد التخلية، قولاً واحدًا.
وإن اشترى ثمرة بشرط القطع، فتلفت بعد التخلية.. ففيه ثلاث طرق:
أحدها قال القفال: تتلفت من ضمان المشتري، قولاً واحدًا؛ لأنه لمّا لم يجب على البائع سقيُها.. لم تتلف من ضمانه.
وثانيها حكى أبو عليّ السِّنجيُّ عن بعض أصحابنا: أنه قال: تتلف من ضمان البائع، قولاً واحدًا؛ لأن المشتري اشتراها على أن يكون القبض فيها هو القطع والنقل، فإذا هلكت قبل ذلك.. كانت من ضمان البائع، كما لو باعه طعامًا، فلم ينقله حتى تلف.
وثالثها من أصحابنا من قال: هي على قولين، ولم يذكر ابن الصبَّاغ غير هذا، كما لو اشتراها مطلقًا.

.[فرع: ترك الجداد والنقل بعد إمكانه]

فإذا بلغت الثمار وقت الجذاذ وأمكن المشتري نقلها، فلم يفعل حتى تلفت بجائحة.. ففيه طريقان:
الطريق الأول قال الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق: تتلف من ضمان المشتري، قولاً واحدًا؛ لأنها إذا بلغت وقت الجذاذ.. وجب عليه النقل، فإذا لم يفعل.. كان مفرِّطًا، فكان هلاكها من ضمانه.
وثانيهما قال ابن الصبَّاغ: إن قلنا إذا تلفت قبل أوان الجذاذ: إنّها تتلف من ضمان المشتري.. فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: تتلف من ضمان البائع.. فهاهنا قولان:
أحدهما: يكون تلفها من ضمان البائع؛ لأن الآفة أصابتها قبل نقلها، فأشبه إذا أصابتها قبل أوان الجذاذ.
والثاني: تتلف من ضمان المشتري؛ لأنه مفرِّطٌ في ترك الجذاذ.
فإن هلك بعض الثمرة بعد التخلية، فإن قلنا بالقول القديم: فإن البيع ينفسخ في
التالف، وهل ينفسخ في الباقي من الثمرة؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما في تفريق الصفقة.
فإذا قلنا: ينفسخ.. فلا كلام. وإن قلنا: لا ينفسخ.. فينبغي أن يثبت للمشتري الخيار في فسخ البيع في الباقي؛ لأن الصفقة تفرَّقت عليه، فإن لم يختر الفسخ.. فإنَّ المشتري يسترجع من الثمن بقدر التالف، فإن اختلفا في قدر التالف، فقال المشتري: تلف نصف الثمرة، وقال البائع: بل تلف ثلثها.. فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن اليمين قد لزمت في الظاهر، فلا يسقط منه إلاَّ ما يقرُّ به البائع، ولأن الأصل عدم الهلاك، إلاَّ في القدر الذي يقرُّ به البائع. وبالله التوفيق

. [باب السَّلَم]

السَّلَم جائزٌ. والأصل في جوازه: الكتاب، والسنَّة، والقياس.
أمَّا الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].
قال ابن عبَّاس: (أشهد أنّ السلف المضمون في الذمة إلى أجل مسمًّى قد أحلَّه الله في كتابه، وأذن فيه، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ} الآية [البقرة: 282]).
وأمَّا السنَّة: فروى الشافعيُّ بإسناده عن ابن عبَّاس: أنه قال: «قدم النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، وهم يسلفون في التمر السنة ـ وربما قال: السنتين والثلاث ـ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلف.. فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم».
و(السلف): يقع على القرض، وعلى السلم، وهو أن يسلف عوضًا حاضرًا في عوض موصوف في الذمة. والمراد بالخبر هو السلم؛ لأن القرض يثبت بمثله حالاً، ولا يحتاج إلى تعيين وتقدير وأجل.
وأمَّا القياس: فلأن البيع يشتمل على ثمن ومثمن، فإذا جاز أن يثبت الثمن في الذمة.. جاز أن يثبت المثمن في الذمّة، ولأن بالناس حاجة إلى جواز السلم؛ لأن أرباب الثمار قد يحتاجون إلى ما ينفقون على تكميل ثمارهم، وربما أعوزتهم النفقة، فجوِّز لهم السلم؛ ليرتفقوا بذلك، ويرتفق به المسلم في الاسترخاص.
فإن قيل: فقد رُوي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع ما ليس عنده)، و: عن بيع السنين»؟
فالجواب: أن المراد بالخبر: أن يبيع عينًا ليست عنده، أو يبيع ثمرة نخلةٍ سنين. فأمَّا إذا كان ذلك في الذمة: لم يدخل في النهي؛ لما ذكرناه في إذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

.[مسألة: فيما يشترط في سلم الأعمى]

ولا يصح السلم إلاَّ ممن يصح منه البيع؛ لأنه بيع في الحقيقة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يصح السلم من الأعمى).
قال المُزنيُّ: يشبه أن يكون أراد الشافعي ـ لمعرفتي بلفظه ـ: الأعمى الذي عرف الألوان قبل أن يعمى، فأمَّا من خلق أعمى: فلا معرفة له بالأعيان، فهو في معنى من اشترى ما يعرف طعمه ويجهل لونه، فلا يصح.
واختلف أصحابنا في ذلك:
فصوَّب المُزنيَّ أبو العبَّاس، وأبو عليّ بن أبي هريرة، وقالا: لا يصح السلم من الأكمه؛ لأن السلم يقع فيه على مجهول، وذلك لا يجوز.
وقال أبو إسحاق، وعامَّة أصحابنا: أخطأ المُزني، بل يصح السلم من الأكمه؛ لأنه المعتمد فيه على الصفات، والأكمه والأعمى في باب الصفات واحد.
قالوا: ولو لم يجز السلم من الأكمه؛ لأنه لم يشاهد الأعيان والألوان.. لم يجز للبصير أن يسلم في شيء لم يشاهده. ولم يقل أحدٌ: إنه لا يجوز لأهل بغداد أن يسلموا في الموز؛ لأنهم لم يشاهدوه، ولا لأهل خراسان السَّلَم في الرُّطب؛ لأنهم لم يشاهدوه، بل متى عرفوا أوصافه.. جاز السلم عليه وإن لم يشاهدوه، كذلك هذا مثله. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد.
فإذا قلنا بهذا: فإنما يصح السلم منه إذا كان رأس المال موصوفًا في الذمة، ثم يعين في المجلس، ويقبض، وهل يصح قبضه بنفسه، أو يوكِّل من يقبض له؟ فيه وجهان، حكاهما في "العدة".
فأمَّا إن كان رأس المال مغيَّبًا: فإنه لا يصح السلم فيه ولا عليه؛ لأنه لا يعرفه.

.[مسألة: صيغة عقد السلم]

وينعقد السلم بلفظ السلم والسلف، بأن يقول: أسلمت إليك هذا الدينار، أو أسلفتك هذا الدينار بكذا وكذا؛ لأنه قد ثبت لهما عرف الشرع والاستعمال، وهل ينعقد السلم بلفظ البيع، بأن يقول: بعني ثوبًا في ذمتك، من صفته كذا وكذا بهذا الدينار؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يكون سَلَمًا؛ لأن السلم غير البيع، فلم ينعقد بلفظه.
فعلى هذا: يكون بيعًا، ولا يشترط فيه إلاّ قبض الدينار في المجلس، ويثبت فيه خيار الشرط.
والثاني: ينعقد سَلَمًا.
فعلى هذا: لا يصح السلم حتى يقبض الدينار قبل أن يتفرَّقا، ولا يثبت فيه خيار الشرط؛ لأن السلم نوع بيع يقتضي قبض العوض في المجلس، فانعقد بلفظ البيع، كالصرف. ومعنى هذا: أن الصرف ينعقد بلفظ البيع، وبلفظ الصرف، فكذلك السلم ينعقد بلفظ البيع، وبلفظ السلم، والمعنى الجامع بينهما: أنه يشترط قبض العوض فيهما في المجلس.

.[مسألة: خيار المجلس والشرط في السلم]

وإذا انقعد السلم.. ثبت لكل واحد منهما خيار المجلس إلى أن يفترقا، أو يتخايرا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقل أحدهما للآخر: اختر». وهذان متبايعان.
ولا يثبت فيه خيار الشرط؛ لأنه لا يجوز أن يتفرّقا قبل تمامه، ولهذا اشترط فيه قبض رأس المال في المجلس، فلم يثبت فيه خيار الشرط، كالصّرف.

.[مسألة: جواز السلم مؤجّلاً وحالاًّ]

يجوز السلم مؤجّلاً؛ للآية والخبر. ويجوز السلم حالاًّ عندنا.
وقال مالكٌ، والأوزاعيُّ، وأبو حنيفة: (لا يصح السلم في الحال، والأجل شرط في صحته). واختلفوا في أقل الأجل:
فقال مالك: (أقلُّه ما له موقعٌ، كالشهر، وما زاد).
وقال الأوزاعي: (أقلُّه ثلاثة أيام). واختلف أصحاب أبي حنيفة: فمنهم من قال: أقلُّه ساعةٌ. ومنهم من قال: أقلُّه ثلاثة أيّامٍ.
دليلنا: أنه نوع معاوضة محضة، فصح معجلاً، كالبيع. وفيه احترازٌ من الكتابة؛ لأنه ليس المقصود منها العوض، وإنَّما المقصود منها تكميل أحكام العبد بالحرية.
ولأن السلم إذا صح مع ذكر الأجل ـ وهو نوعٌ من الغرر؛ لأنه ربما ينقطع المسلم فيه، وربما لا ينقطع، وربما أمكن التسليم، وربما لم يمكن ـ فلأن يصح مع فقده أولى. ولا تدخل عليه الكتابة؛ لأن الغرر فيها في فقد الأجل؛ لأنه يحل العوض فيها عقيب العقد، ولا يقدر على تسليمه؛ لأن ما بيده لمولاه، فيكون فيه غرر، فإذا كاتبه إلى نجمين.. يجوز أن يملك إلى حين المحل ما يؤدِّي، فانتفى عنه الغرر بذكر الأجل.

.[فرع: جواز السلم في المعدوم والموجود]

ويجوز السلم في المعدوم إذا كان مأمون الانقطاع عند المحل وإن كان منقطعًا حال العقد أو ما بعده، إلا أن يكون المسلم حالاًّ.. فيعتبر وجوده حال العقد. هذا مذهبُنا، وبه قال مالكٌ، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق.
وقال الأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: (من شرط السلم، أن يكون المسلم فيه موجودًا من حين العقد إلى حين المحل).
دليلنا: ما روى ابن عبّاس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة، وهم يسلفون في التمر السنة والسنتين والثلاث، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلف.. فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم». ولا محالة أنه يكون منقطعًا في بعض الأوقات، ولأنه وقتٌ لم يكن محلاًّ للسلم عقدًا، فلم يكن وجوده فيه شرطًا، كما قبل العقد.
فقولنا: (عقدًا) احترازٌ من المسلم إليه إذا مات.. فإنه يكون وقتًا لمحل السلم، لكن بغير العقد.
ويجوز السلم في الموجود؛ لأنه إذا جاز السلم في المعدوم.. فلأن يجوز في الموجود أولى.

.[مسألة: السلم في العروض والنقد]

ويجوز أن يسلم في الثياب وغيرها من العروض، وفي الدراهم والدنانير على المشهور من المذهب.
وحكى المسعودي [في "الإبانة" ق\257] وجهًا آخر: أنه لا يصح. وليس بشيء؛ لأنه مالٌ يجوز بيعه، ويضبط بالصفة، فجاز السلم فيه، كالثمار.
فأمَّا إسلام الدراهم بالدراهم أو بالدنانير: فإن كان مؤجّلاً.. لم يجز؛ لأن الأجل لا يدخل في بيع أحدهما بالآخر. وإن كان حالاًّ.. ففيه وجهان:
الأول: قال القاضي أبو الطيب: يصح، ويشترط قبضهما في المجلس؛ لأن السلم أحد نوعي البيع، فانعقد به الصرف، كلفظة البيع.
والثاني: قال الشيخ أبو حامد: لا يصح؛ لأن لفظ السلم يقتضي تقديم أحد العوضين، واستحقاق قبضه دون الآخر، والصرف يقتضي تسليم العوضين في المجلس، فتضادَّت أحكامهما، فلم يصح.

.[فرع: ما يجوز فيه السلم]

كلُّ حيوان جاز بيعه، وضبطه بالصفة، كالرقيق والأنعام والخيل والبغال والحمير.. جاز السلم عليه، وبه قال من الصحابة: عليٌّ، وابن عمر، وابن عبّاس، ومن التابعين: سعيد بن المسيِّب، والحسن البصريُّ، والنَّخعيُّ، ومن الفقهاء: مالك وأحمد.
وذهبت طائفة إلى: أنه لا يجوز السلم في الحيوان بحالٍ. وذهب إليه من الصحابة: ابن مسعود، ومن الفقهاء: الأوزاعيّ، وأبو حنيفة، وأصحابه.
دليلنا: ما روى عبد الله بن عمرو قال: «أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أجهز جيشًا،
وليس عندنا ظهرٌ، فأمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أبتاع البعير بالبعيرين والأبعرة، إلى خروج المصدِّق». وهذه صفة السلم في الحيوان.
قال الشافعي: (ولأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض في الديات الإبل، فلولا أنّها تثبت في الذمة.. لم يفرضها فيها).
ولأن الحيوان يضبط بالصفة، بدليل ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تصف المرأةُ المرأةَ لزوجها؛ كأنه ينظر إليها». فجعل الصفة بمنزلة الرؤية في حصول العلم بها، وإذا كان الحيوان يمكن ضبطه بالصفات.. جاز السلم فيه، كغيره من الأموال.
ويجوز السلم في الزيت والحنطة؛ لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال: «كنّا نسلف ـ ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فينا ـ في الزبيب، والزيت، والحنطة».
ويجوز السلم في كل مال يجوز بيعه، ويضبط بالصفة، كالثياب والأخشاب والأحجار والحديد والرّصاص والصُّفر وغير ذلك؛ لأنه مالٌ يجوز بيعه، ويضبط بالصفة، فجاز السلم فيه، كالحنطة والتمر والزيت.

.[مسألة: السلم في النبال والنشاب]

قال الشافعيُّ في " المختصر ": (لا يجوز السلم في النبل).
وقال في "الأم" [3/110] (يجوز السلم في النُّشّاب).
قال الشيخ أبو حامد: والنَّبل على ثلاثة أضرب.
أحدُها: أن يكون قد نحت ورُيِّش ونُصِّل، فهذا لا يجوز السلم فيه؛ لأنه لا يقدر على ضبطه بصفة؛ لأنه دقيق الطرفين غليظ الوسط، وذلك لا يضبط، ولأن فيه خشبًا وحديدًا وعقبا وريشا وغرا وذلك لا يمكن ضبط كل واحد منها، ولأن ريش النسر نجس.
الضرب الثاني: ما نحت وفوِّق لا غير، فهذا لا يجوز السلم فيه أيضًا؛ لأنه لا يضبط بالصفة؛ لما ذكرناه.
والضرب الثالث: ما شق خشبه، ولم ينحت، فهذا يجوز السلم فيه؛ لأنه يمكن ضبطه، وهذا الذي أراده الشافعي بما ذكره في "الأم".
قال ابن الصبّاغ: ويجوز السلم فيها وزنًا.
وقال أبو علي في "الإفصاح": إن أمكن أن يقدر عرضها وطولها.. جاز السلم فيها عددًا.

.[فرع: السلم في الجواهر والجلود والورق وغيرها]

ولا يجوز السلم في شيء من الجواهر: من لؤلؤ، وزبرجد، وياقوت، وعقيق، وفيروزج؛ لأن كبر أجسامها ووزنها وصفاتها مقصودٌ، وأثمانها تختلف لذلك. وذلك لا يضبط بالصفة. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في "الإبانة" ق\256] إن أريدت للزينة. لم يجز السلم فيها؛ لما ذكرناه. وإن أريدت للسحق والدواء.. جاز السلم فيها.
وأمّا الجلود والرق: فنقل البغداديون من أصحابنا: أنه لا يجوز السلم فيها؛ لأنه لا يمكن ضبط صفتها، لأن جلد الوركين ثخين قوي، وجلد الصدر ثخين رخو، وجلد الظهر رقيق ضعيف، ولأنه لا يمكن ذرعه؛ لاختلاف أطرافه، ولأنه لا يمكن ضبط ذلك بالوزن؛ لأن الجلدين قد يتفقان في الوزن، ويختلفان في القيمة؛ لسعة أحدهما بالخفة، وضيق الآخر بالثقل.
وكذلك: لا يجوز السلم في النِّعال والخفاف والشمشك؛ لما ذكرناه في الجلد، ولأن في الخفاف والشِّمشك أخلاطًا، وذلك لا يضبط.
ونقل المسعودي [في "الإبانة" ق\255] أن السلم يجوز في الجلود إذا ذكر
الجنس، والطول، والعرض. وقال [في "الإبانة" ق\256] وكذلك يجوز السلم في الخف والنعل، إذا كانت طاقاته معلومة.
وحكى الصيمري: أن أبا العبّاس ابن سريج أجاز السلم في الخفاف والنعال. وبه قال أبو حنيفة.
ويجوز السلم في الورق؛ لأنه يمكن ضبط وصفه.
قال الصيمري: والوزن فيه أحوط. ولا يجوز السلم في الظهور والكتب المقروءة، إلاَّ أن تضبط. هكذا ذكر الصيمري.

.[فرع: السلم في العقار والأرض والأشجار]

ولا يجوز السلم في الدُّور، والأرض، والأشجار؛ لأنه لا بد من ذكر البقعة فيه، والثمن مختلف باختلاف البقاع، وإذا ذكرت البقعة.. كانت معينة، والسلم في المعين لا يجوز.

.[مسألة: السلم فيما عملت به النار]

ولا يجوز السلم فيها علمت فيه النار، كالخبز والشوى؛ لأن عمل النار فيها يختلف. فأما اللِّبَأُ: فإن طبخ بالشمس.. جاز فيه السلم. وإن طبخ في النار.. ففيه وجهان:
الأول: قال الشيخ أبو حامد: لا يجوز؛ لأن عمل النَّار فيه يختلف.
والثاني: قال القاضي أبو الطيب: يصح؛ لأن ناره ليِّنة.
قال ابن الصباغ: والأول أقيس. وكل موضع صح السلم فيه.. فإنه يصفه بصفات اللبن على ما يأتي ذكره. ويذكر لونه؛ لأن لونه يختلف، ولا يحتاج إلى ذكر اللون في اللبن؛ لأنه لا يختلف. ولا يصح السلم في اللِّبأ إلا وزنًا؛ لأنه لا يمكن كيله.

.[مسألة: السلم في أخلاط]

ولا يجوز السلم فيما يجمع أجناسًا مقصودةً لا تتميَّز، كالغالية، والند، والعود المُطَرّى، والهريسة، والقوس العجميّ؛ لأن فيه الخشب والعظم والعصب. ولا يجوز السلم في جميع ذلك؛ لأنه لا يقدر على صفة كل خلط منها، وهو مقصود.
ولا يجوز السلم فيما خلط فيه ما ليس بمقصود، ولا مصحلة له فيه، كاللبن المخيض: الذي طرح فيه الماء، والحنطة التي فيها الزؤان؛ لأنَّ ذلك يمنع من ضبط صفة المقصود.
ويجوز السلم في الجبن وفيه الإنفحة، ويجوز السلم في السمك وفيه الملح؛ لأن المقصود هو الجبن والسمك، وإنما تطرح فيه الإنفحة والملح لمصلحته. وهل يجوز السلم في خل التمر والزبيب؟ فيه وجهان:
الأول: قال الصيمري في " الإيضاح ": لا يجوز؛ لأن فيه الماء، فهو كالمخيض.
والثاني: قال عامة أصحابنا: يجوز؛ لأن الماء هو عماده، وبه يكون خلاًّ بخلاف المخيض، فإنه لا مصلحة له في الماء، فيصير اللَّبن به مجهولاً.
وأمَّا السلم على خل العنب: فيجوز؛ لأنه لا يخالطه غيره، ويمكن وصفه.
ويجوز السلم في الأدهان المطيَّبة؛ لأن الطيب لا يختلط بها، وإنما تعبق به رائحته.

.[فرع: السلم في الثوب المصبوغ]

وإن أسلم في ثوب صبغ غزله، ثم نسج.. صحّ. وإن كان في ثوب نسج، ثم صبغ.. ففيه وجهان:
الأول: قال الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق: لا يجوز؛ لأنه سلم في ثوب وصبغ مجهول.
والثاني: قال صاحب " الحاوي ": يجوز، كما يجوز فيما صبغ غزله، ثم نسج. قال الشاشيُ: وهذا أصح.
قال الشيخ أبو حامد: إذا قال: أسلمت إليك في ثوب مصبوغ.. لم يجز؛ لأن السلم في الصبغ لا يجوز. وإن قال: أسلمت إليك في ثوب مقصور.. جاز؛ لأن القصارة صفة للثوب، والصبغ عين. ولو قال: أسلمت إليك في ثوب على أن تقصره.. لم يجز؛ لأنه سلم في ثوب وصبغة، والصبغة مجهولة.
قال الشيخ أبو حامد: وإن أسلم في ثوب نسج، ثمّ نقش بالإبرة بعد النسج.. جاز السلم. وكذلك: يجوز السلم فيما كان لحمته إبريسما وسُداه قطنًا؛ لأن المختلط وإن كان مقصودًا، إلا أنه متميز.
وذكر الشيخ أبو إسحاق في "المهذب": لا يجوز السلم فيما عمل فيه من غير غزله، كالقرقوبي؛ لأن ذلك لا يضبط. ولعله أراد المقرقب بالإبرة، فإن كان هذا مراده.. حصل فيها وجهان. قال: واختلف أصحابنا في السلم في الثوب المعمول من غزلين:
فمنهم من قال: لا يجوز؛ لأنهما جنسان مقصودان لا يتميز أحدهما من الآخر، فأشبه الغالية.
ومنهم من قال: يجوز؛ لأنهما جنسان يعرف قدر كلِّ واحدٍ منهما.

.[فرع: السلم في الرؤوس المأكولة]

وهل يجوز السلم في رؤوس ما يؤكل لحمه، غير المشوية والمطبوخة؟ فيه قولان:
أحدهما: يجوز، وبه قال مالك؛ لأن السلم يجوز في اللحم، وهو عظم ولحم، فكذلك في الرؤوس؛ لأنها لحمٌ وعظمٌ.
والثاني: لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لأنه لا يجوز السلم إلا فيما كان جميعه مقصودًا، كالسمن والعسل وغيرهما، أو فيما كان أكثره مقصودًا، كالتمر والبطِّيخ والرُّمان. وأمّا الرؤوس: فليست كلُّها مقصودة، ولا أكثرها مقصودًا؛ لأن أكثره العظم، وهو غير مقصود، فلم يصحّ السلم فيه.
وأمّا الأكارع: فقد ذكر القاضي أبو الطيب: أنه لا يجوز السلم فيها.
قال ابن الصبَّاغ: وعندي أنها على قولين، كالرؤوس.
فإذا قلنا: يجوز السلم فيها.. فلا يجوز عددًا ولا كيلاً؛ لأن ذلك يختلف، وإنما يجوز السلم فيها وزنًا.

.[مسألة: السَّلَم في الطير والجراد]

وهل يجوز السلم في الطير؟
قال الشيخ أبو إسحاق: لا يجوز؛ لأنه لا يضبط بالسن، ولا يعرف قدره بالذرع.
وقال المسعودي [في "الإبانة" ق\255] يجوز إذا ضبطها بالوصف.
وأمّا السَّلَم على الجراد: فذكر الصيمري: أنه يجوز السلم فيه حيًّا وميِّتًا، ولا يجوز السلم فيه مشويًّا ولا مطبوخًا.
قلت: وهذا محمول على أنه أراد في الزمان الذي يوجد فيه غالبًا.

.[فرع: السلم في الجارية وولدها]

ولا يجوز أن يُسْلِمَ في جارية وولدها؛ لأنه لا بد من وصفها، ووصف ولدها، ويتعذر وجود جارية لها ولد على ما وصفهما.
قال الشافعي: (وإذا أسلف في جارية وولد، ولم يقل ولدها.. جاز)؛ لأنه أسلم في كبير وصغير.
ولو شرط في العبد: أنه خبّاز، وفي الجارية: أنّها ماشطة.. جاز، وكان له أدنى ما يقع عليه الاسم.
وإن أسلم في جارية عوّادة أو مغنية.. لم يجُز؛ لأنه أسلم فيما لا يجوز أن يعقد عليه. وإن أسلم في جارية يهودية أو نصرانية.. قال الصيمري: صح السلم.
والفرق بينهما: أن ذلك تقر عليه. ولو عقد عليها بعينها، وشرطا: أنّها كذلك.. جاز العقد دون السلم؛ لأنه صفة في الذمة.
ولو أسلم في عبد سارق، أو زان، أو قاذف.. قال الصيمري: فالصحيح جوازه، بخلاف المغنية؛ لأن تلك صناعة محظورة، وهذه أمور تحدث، فأشبهت العمى.
وإن أسلم في جارية حامل.. ففيه طريقان:
الأول: من أصحابنا من قال: لا يصح، قولاً واحدًا؛ لأن الولد مجهول غير متحقق، فلم يجز السلم عليه.
والطريق الثاني منهم من قال: فيه قولان:
أحدهما إن قلنا: إن الحمل لا حكم له.. لم يجز السلم فيها.
والثاني: إن قلنا: للحمل حكم.. جاز السلم فيها. وهذه طريقة الشيخ أبي حامد.
قال ابن الصّباغ: والأول أصح.